الخميس، 13 أغسطس 2015

داود عبد السيد الكيت كات واسطورة الرجل الضرير

‏‎ ولد المخرج داود عبد السيد فى 22نوفمبر 1946 وتخرج من المعهد العالى للسينما قسم اخراج عام 1967 ثم عين بمؤسسة السينما المصرية عمل فى البداية مساعدا للاخراج فى افلام الرجل الذى فقد ظله مع كمال الشيخ الارض مع يوسف شاهين اوهام الحب مع ممدوح شكرى ثم انتقل الى المركز القومى للافلام التسجيلية عام 1970 فقام باخراج فيلم رقصة من البحيرة عام 1972 وهو فقرة من مجلة مصر اليوم ثم قام باخراج فيلم تعمير مدن القناة من انتاج وزارة التعمير والاسكان عام 1974 ثم اخرج فيلم وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم عام 1976 وقد ظهر حسه الفنى العالى بوضوح فى هذا الفيلم وكذلك اسلوبه الرائع فى طريقة طرحه لهموم واقع القرية ثم اخرج فيلمين العمل فى الحقل عن الفنان التشكيلى حسن سليمان و فيلم عن الانبياء والقديسين والفنانين عن اعمال وحياة الفنان التشكيلى راتب صديق قدم اول افلامه الروائية الطويلة بعد ثمانية عشر عاما من تخرجه من المعهد العالى للسينما فكان الصعاليك عام 1985 وقد تناول من خلاله تيمة المكاسب المادية الهائلة التى تتحقق عن طريق اساليب غير مشروعة من خلال سنوات الانفتاح الاقتصادى عبر رحلة صعود الصاليك من قاع المجتمع المصرى الى القمة فى لغة سينمائية شديدة التأثير ضمن تيار سينمائى جديد سمى الواقعية الجديدة فى السينما المصرية ثم جاء فيلمه الثانى الروائى الطويل بعد توقف خمس سنوات البحث عن سيد مرزوق عام 1991 عن رؤية متعددة الابعاد للقاهرة 90 والصراع الطبقى فى المجتمع المصرى والعلاقة بين الشعب والسلطة من ناحية اخرى أنه تعبير سينمائى خالص عما اطلقه عليه الدكتور مصطفى سويف الاكتئاب القومى فى مصر حيث لايعرف الناس هل هم أغنياء ام فقراء فى حالة حرب ام فى حالة سلم ومن هذا التلاحم العضوى بين رؤية الفنان واسلوبه فى التعبير عنه ويأتى بعد ذلك فيلمه الروائى الثالث الكيت كات عام 1991 معتمدا فيه على رواية ادبية من اهم الروايات فى الادب المصرى المعاصر وهى رواية مالك الحزين لابراهيم اصلان فيحقق من خلالها المعادلة الصعبة بين الفن الراقى الذى يخاطب الوجدان ويغزى العقول والفن الجماهيرى الممتع دونما اى ابتذال او مداعبة للغرائز الجنسية مما يتيحه العمل الروائى والاجواء التى تدور فيها الاحداث ولكن داود عبد السيد تجاوز الاطر السينمائية الموروثة من السينما التجارية عند تناوله لرواية مالك الحزين مثلما تجاوز بطل الكيت كات ذلك الواقع الذى يعيش فيه كما سنرى ذلك يبدو استيعاب داود عبد السيد لعالم ابراهيم اصلان واضح اشد الوضوح ويبدو ذلك فى تصويره للحارة المصرية بادق تفاصيلها التى نستنشق منها عبق التاريخ فى كل لقطة من لقطات الفيلم كما يبدو ذلك فى المشاهد التى تحتوى على النماذج البشرية الموجودة فى الحارة التى تستشعر بانها شخصيات حية مثل المعلم عطية - عثمان عبد المنعم - صاحب المقهى الذى يرضخ لتهديدات تاجر الدواجن المعلم صبحى الذى يريد ان يهدم البيت القديم الذى باعه الشيخ حسنى - محمود عبد العزيز - لتاجر المخدرات المعلم الهرم - نجاح الموجى - ليبنى مكانه عمارة جديدة كبيرة كذلك شخصية فاطمة - عايدة رياض - المرأة التى هجرها زوجها وتعشق الشاب يوسف - شريف منير - نجل الشيخ حسنى الضرير والذى يراوده حلم السفر للخارج ليحقق ذاته وتذهب الى احد اضرحة اولياء الله الصالحين لتدعو بأن يتحقق لها حبه منها انه الايمان بمعجزات الاولياء الصالحين فى زمن لم يعد للمعجزات وجود الا فى عقول بعض البشر انه فى النهاية الضعف الانسانى بكل معانيه كذلك هناك فى الفيلم شخصية مأساوية مهمة وقد جسد هذه الشخصية المأساوية باقتدار عظيم شخصية الجواهرجى سليمان الفنان - احمد كمال - الذى تأتى مأساته من هروب زوجته روايح لاسباب تأتى على لسانه فى مشهد من اجمل المشاهد التى جاءت بالفيلم مشهد تناوله البيرة فى خمارة الحى مع بعض الاصدقاء فيروى لهم حكايته مع زوجته - الممثلة جيهان نصر - لكنه ينسبها لصديق له متيسر الحال ايضا مثله اكتشف بعد خمسة عشر عاما من الزواج انه لم يتناول مع زوجته اى حوار ولم يكن يشاركها الا الطعام والشراب والفراش فقط فتذمرت من ذلك الوضع فأعطاها علقة ساخنة مشيت بعدها مثل الساعة فردد اصدقاء الجواهرجى سليمان بأنسجام شديد بأنه رجل جدع صحيح وبهذه الصورة المأساوية تتضح أبعاد شخصية سليمان الجواهرجى التى أجادها بأقتدار شديد الفنان - احمد كمال - التى تعانى ذلك الخواء الروحى وتفتقر حرية القرار فهى شخصية عاجزة عن تغيير واقعها المأساوى فقد استسلمت لعجزها وبذلك تكون هذه الشخصية العاجزة هى المعادل الدرامى لشخصية الشيخ حسنى الضرير - محمود عبد العزيز - الذى كان أعمى البصر ولكنه لم يكن أعمى البصيرة وتأتى شخصية الشيخ حسنى الضرير فى الفيلم لتذكرنا بشخصية العراف الضرير - تيريزياس - فى الاساطير اليونانية القديمة التى تقول انه الرجل الحكيم والعراف المقدس الذى يكشف امامه الماضى والمستقبل واستطلاع الغيب حيث تشتد حدة البصيرة عنده فى تخطى الرؤية البصرية وكما كان تيريزياس نصيرا لكل اعمى ومعين لفاقدى البصر كان الشيخ حسنى كذلك ويأتى مشهد الكفيف الشيخ عبيد - على حسانين - الذى يطلب المعونة لعبور الطريق فيتقدم لمساعدته الشيخ حسنى ويصطحبه دون ان يخبره بعجزه ويقيم معه صداقه من نوع مثير لم نعهده فى السينما المصرية طوال تاريخها يصطحب الشيخ حسنى الشيخ عبيد الى دار عرض سينمائى فى مشهد من اجمل مشاهد الفيلم و فى جو أشبه بالحواديت والاساطير ويتأكد ذلك من خلال اللقطات المعروضه للفيلم المعروض بدار العرض وهو Clash Of The Titans (1981) والذى سمى تجاريا جحيم الجبابرة يحكى الشيخ حسنى من خياله حكايات مختلفه تماما لما يحدث فى الفيلم المعروض ولكن بصورة اكثر سحرا وجمالا حتى ان المتفرجين المحيطين به يدهشون لهذا الجو الذى يخلقه الشيخ حسنى وهو يروى للشيخ عبيد فيمرر احدهم يديه امام عينيه للتأكد من كونه ضرير ام مبصر فيدرك انه ضرير فيبتسم وكما يحدث عادة فى دور العرض يطلب الشيخ حسنى من الجالس امامه الانخفاض قليلا حتى يستطيع الرؤية قائلا : انا مثلك معى تذكرة تماما كما يحدث لى ولك نحن المبصرين ثم ينصت المتفرجون من حوله لحكاياته الخرافية التى هى أشد سحرا من مشاهد الفيلم المعروض جحيم الجبابرة وللدلاله على ذلك يختار المبدع داود عبد السيد من الفيلم مشهد الجواد الاسطورى ذى الاجنحة ليعطينا بذلك صورة لما يخلقه الشيخ حسنى من حكايات تفوق فى سحرها سحر الاسطورة المعروضة وفى مشهد من اجمل المشاهد التى جاءت ايضا بالفيلم يعطينا داود عبد السيد جرعة كبيرة لمحاولة من محاولات الشيخ الضرير حسنى لتجاوز محنته فنراه يصطحب الشيخ عبيد فى نزهة نيلية وفى مشهد بالغ التأثير نرى القارب وهما بداخله والشيخ حسنى يحرك المجداف لاعلى واسفل محدثا صوتا قويا ونرى القارب لايتحرك من مكانه ويستطيع الشيخ حسنى خلق وهما جميلا بانهما توغلا بعيدا فى النهر حتى يحدث ان يتم سقوطهما بواسطة احد اعوان ناجر الدواجن -الممثل عثمان عبد المنعم - فى احدى محاولاته للضغط على الشيخ حسنى لترك الدكان الذى يملكه وخاصة بعد ان وضع لوحة يعلن بها عن افتتاح نشاط تجارى بالمحل وهى حيله ذكية منه لرفع سعر المحل تماما كما يفعل الاذكياء من التجار وقد اتت تلك الحيلة بثمارها بعد ذلك يتم انتشالهما من النيل بعد سقوطهما وهنا يعرف الشيخ عبيد من منقذيهما بأن الشيخ حسنى ضرير مثله فيضحك من شدة المفارقة ويفيق من الوهم الجميل الذى خلقه الشيخ حسنى عن كونه غير ضرير ثم يأتى مشهد العزاء لمأتم عم مجاهد بائع الفول - الممثل احمد سامى عبد الله - فيبدو داود عبد السيد فى هذا المشهد أكثر استيعابا لتراث السينما العالمية فقد عقد الكثير من نقاد السينما مقارنة بين هذا المشهد وبين ومشهد الجنس المذاع عبر الميكروفون فى فيلم M.A.S.H (1970) Dir: Robert Altman ماش للمخرج الامريكى روبرت التمان الذى علق فيه ميكروفون بالمعسكر الخاص بالمستشفى الميدانى العسكرى الامريكى وتم فتح جهاز الميكروفون فى غفلة من احد الجنود واحدى الممرضات وهما فى غرفة العمليات الجراحية يمارسان الجنس فيتم فضح كل ما يدور بينهما على الملآ فى المعسكر فى مشهد ساخر جدا نرى فى الكيت كات عامل الميكروفون يبدو عليه الارهاق وينام بجوار الميكروفون تاركا أياه مفتوحا يتم ذلك فى عدة لقطات موحية بأن ما سوف يحدث له لم يكن مقصودا فيحدث هنا فعلا ما يشبه الكارثة بسبب نوم العامل فيجاهر الشيخ حسنى بما يشبه المحاكمة العلنية لمعظم اهالى الحى فيتم كشف المستور ويظهر الكل على حقيقته بضعفه الانسانى وبكل ما يحمل من معانى غير اصيلة من خلال الميكروفون دون ان يدرى بأن ذلك مذاع على الهواء مباشرة ثم يأتى المشهد الختامى عندما يخرج الشيخ حسنى وابنه يوسف - شريف منير - من النيل بعد سقوطهما بالدراجة البخارية فى محاولته الثانية للسير بها فى شوارع القاهرة المزدحمة وفوق الكبارى فيقول يوسف لوالده الشيخ حسنى : انت ليه يا ابى مش عايز تعترف انك اعمى فيرد عليه والده الشيخ حسنى : انا بأشوف احسن منك فى النور وفى الضلمة كمان ثم يحتضن ابنه يوسف فى حنان ابوى شديد ويبدأن فى غناء وترديد كلمات بالتأكيد يقصد داود عبد السيد ان يوجهها لنا يمكن نلاقى الغلابة فى أول الصفوف فى دعوة من المخرج على لسان الشيخ الضرير الى العاجزين والمقهورين للعمل على تجاوز عالمهم الحزين وعجزهم الانسانى عبر اسطورة الشيخ حسنى فمن المعروف والمتفق عليه ان الاساطير والخرافات بعوالمها الغريبة واشخاصها منفصلة تماما عن عالمنا الزمنى وان تكن تؤثر دائما فى حياتنا وهذا ما رأيناه من الشيخ حسنى فى الكيت كات فهل تتحقق نبوءة الرجل الضرير
بقلم على نبوى

هناك تعليقان (2):