الثلاثاء، 27 نوفمبر 2007

السينما وما بعد الحداثة

السينما وما بعد الحداثة


السينما هي الفن السابع، وهي فن القرن العشرين، وهي عالم الخيال والأسطورة. وكانت دار "الخيالة" من ضمن الترجمات التي استخدمت لكلمة السينما. وكل هذه التعريفات تمثل جانباً مهماً من جوانب السينما ألا وهو الطابع الأيقوني للصورة السينمائية. فالفن السابع يربط بينها وبين الفنون الستة المقدسة عند الإغريق ويضعها على قمة الأوليمب جنباً إلى جنب معهم، وفن القرن العشرين يجعلها فن التقنية المتطورة، والتعبير الأمثل عن التقدم الهائل الذي حدث في هذا القرن، والذي عبر عن نفسه في النهاية في اقتناص اللحظة المعاشة وتثبيتها ومن ثم إعادة إنتاجها.

أما عالم الخيال والأسطورة المتجسدة والخيالة فكلها تعبيرات توضح كيف أن ما نراه على الشاشة أمامنا هو لحظة حاضرة متجسدة دوماً، رغم أنها ذات بُعدين، بل إن تأثيرها أساساً على البشر ينبع من كونها ذات بعدين، فهي ليست حقيقة فيتجاوز تأثرها مجرد اللحظة والوهم ويتعداه إلى التفعيل والحركة. ولكنها ليست طيفاً أو أطيافاً حلمية مبعثرة فينحصر تأثيرها في الآن المرئي ولا يتعداه إلى الزمن المستمر البعدي.
السينما، إذن، هي الخيال المنظم والأيقونة المستمرة المتجسدة، ومن ثم فهي أقدر الفنون على حمل الرسالة الأيقونية لما بعد الحداثة، بمعنى أن كل ما نراه أمامنا على الشاشة ليس رمزاً، وإنما هو الشيء ذاته، وهذا الانطباق التام ما بين الدال والرمز والمرموز له هو أحد أهم خصائص الرسالة الأيقونية.
الجانب الآخر من السينما نجده في عبارة "صناعة السينما"، بمعنى تعلق السينما بنمط الإنتاج الصناعي أو الإنتاج بغرض الربح، ومن ثم الإنتاج السلعي، إن "سلعية السينما" هي الوجه الآخر لعملية الأيقنة، فالأيقنة ليست فقط انطباقاً للدال على المدلول ولكنها أيضاً سلعة في سوق. وكل فرد يختار أيقونته الخاصة ليعبدها ويتعبد لها ويتمثل فيها ويتعين داخلها. ومن يتجلى بوضوح كيف كانت هوليود أكثر الأماكن ملاءمة لعملية الأيقنة وما بعد الحداثة، فهي مصنع النجوم/الأيقونات على مستوى العالم، وهي جزء من الشبكة الصناعية الكبرى في المجتمع ما بعد الحداثي الأكبر حيث تكريس قيم الفردية والذاتية والبحث المتواصل عن اللذة الخالصة، وهي التي شهدت التطور الأعظم في هذا المجال.
ولو حاولنا رصد هذا التطور سنجد أن أول الأفلام التي حملت رسالة البعث العلمانية، وكان مثلها الأعلى هو أمركة العالم هو فيلم سرقة القطار الكبرى لبوتر، هذا الفيلم الذي يظهر الوحش الميكانيكي الذي يتعرض لهجوم من عصابة الأشرار وتقوم القرية الخيرة بالدفاع عنه وإعادة الحق المسلوب. وهو كما نرى خط بسيط يركز على الرموز المدنية والقيم الثنائية خير/شر، حضارة/ تخلف.. إلخ، ولكنه يركز أيضاً على راعي البقر كأيقونة مزدوجة خيرة/ شريرة بمعنى أنها أيقونة خالصة وخاصة بمجتمع الولايات المتحدة الأمريكية.
المرحلة التالية كانت مرحلة النجم/ السلعة وهي تتوافق مع مرحلة تنظيم الإنتاج وظهور "هوليود" إلى الوجود، المدينة الصناعية الضخمة، والتي تجمع كل مصانع الصناعة الكبرى، ألا وهو الاستوديوهات، واستمرت هذه المرحلة طوال الفترة 1911- 1927 وهو عام دخول الصوت إلى السينما، وظهر خلالها العديد من النجوم/ السلع مثل: ماري بيكفور، وليليان جيش، وكلارابو، وتشارلي تشابلن، ودوجلاس فيربانكس، ورودلف فالنتينو. والممثل أو الممثلة داخل النفط المعين سواء الفتاة المرحلة البسيطة كلارابو أو العربي البدوي الشديد (فالنتينو) أو الصعلوك البسيط الذكي (تشابلن)، والغريزة العذراء المنكسرة (ليليان جيش) أو المعتدة بنفسها (ماري بيكفورد) أنماط يسهل التعيين فيها وتقمصها، وبالتالي يسهل ترويجها كسلعة واستعادة الأموال التي صرفت عليها، نلاحظ هنا أن الأيقنة لم تكن عملية مكتملة، فهذا النجم/ السلعة لم يكن هو ذاته على الشاشة، وكان ثمة ثغرة دائمة بين الدال والمدلول هي ثغرة الصحافة الفنية التي تنقل أخبار النجوم والفارق بين السينما والواقع، الأيقنة كانت في الشخصية السينمائية/ القناع وأيضاً في السلعية.
ومع دخول الصوت حدث تطوراً آخر، لقد ازدادت واقعية الصورة المرئية على الشاشة، وبالتالي ازداد انطباق الرمز على ما يرمز له ودخلنا في مرحلة النجم/ السلعة/ الرمز حيث همفري بوجارت ليس مجرد شخصيات متعددة في "الصقر المالطي" و"كازابلانكا" وأن نمتلك أو لا نمتلك، وغيرها. وإنما هو رمز الذكورة الناضجة المتحققة على حساب الأنثى القاتلة. وهي تيمة أساسية تتكرر كثيراً في أفلامه. ويصير فريد إستير وجين كيلي من بعده رمزين للشباب المرح المنطق سواء في عربة الاستعراض أو الغناء تحت المطر. وتصبح هيدي لامار وأنجريد برجمان وليندا دارنيل وريتا هيوارث رموزاً شكلية سواء للجميلة الطاغية أو الأنثى الغامضة كما في سيئة السمعة أو المأسور، أو للجمال الهادئ في مواجهة الجمال الطاغي كما في "دكتور جيكل ومستر هايد"، وأخيراً الأنوثة المتفجرة المسيطرة كما في "دماء ورمال" و"جيلدا".
وهنا أيضاً لم تكن عملية الأيقنة كاملة، لقد أضحى النجم رمزاً لحالة وليس لشخصية/ قناع، ولكن هذه الحالة ليست ذات النجم فريتا هيوارث، على سبيل المثال، كانت ضعيفة الشخصية سكيرة وكان الجمهور يعرف هذا ولكنه لم يكن يشتري ريتا هيوارث من شباك التذاكر وإنما كان يشترى الرمز/الحالة. وبالمثل فبوجارت كان زوجاً مخلصاً لامرأة قوية الشكيمة هي لورين باكول على العكس تماماً من أدوارهما، إلا أن هذا لا يهم فتلك كانت الثغرة الخيالية، التي يملؤها المتفرج بذهنه للوصول إلى الحالة/الرمز.
المرحلة الثالثة تأتي مع الألوان وأيضاً مع نمط الحياة الاستهلاكي المتزايد الذي بدأ في الخمسينيات في الولايات المتحدة، وهنا وصلنا إلى النجم/السلعة/الرمز/ الأيقونة. وكان التجسيد الأمثل لهذه المرحلة كل من مارلين مونرو وجيمس دين، والنهاية المأساوية التي لقيها الاثنان إنما توضح العبء النفسي الهائل الذي كان ملقي عليهما. دين كان رمزاً لحالة كما في "العملاق" و"شرق عدن" و"متمرد بلا سبب". وكان سلعة يتهافت عليها الشباب في كل أنحاء العالم. وكان نجماً انطلق بسرعة في سماء هوليود، ولكنه أيضاً أيقونة كاملة، دين على الشاشة هو دين في الحياة، دين الذين يموت في حادث سيارة هو دين الذي قاد السيارة إلى حافة الهاوية في "متمرد بلا سبب"، دين الذي يرتدي ملابس خاصة في العملاق هي نفس ملابسه في الحياة والتي صارت منوالاً يسير عليه الشباب في جميع أنحاء العالم، حتى انطلق المثل في مصر قائلاً "عامللي جيمس" نسبة إلى جيمس دين، وبالمثل مارلين مونرو أو "سكر" في "البعض يفضلونها ساخنة". الغراميات الساخنة في الحياة هي نفسها غرامياتها في السينما، والأنثى التي لا تكتفي في "نياجرا" هي مارلين مونرو أسطورة الجنس أو فينوس الجديدة.
نلاحظ هنا أن ارتباط الأيقونة الجديدة الكاملة بالجنس، وهي إحدى الخصائص الأساسية لما بعد الحداثة حيث الحلول ما بعد الحداثي حلول رحمي يستعيد المرحلة الإميانوسية في تطور الجنين بانغماسه المتكرر في الجنس ورموزه سواء الذكرية أو الأنثوية، وهكذا انطلقت أيقونات الإغراء ب.ب. أو بريجيت باردو ونلاحط هنا بداية الترميز الكامل. وجين مانسفيلد أو الصدر الأعظم حيث اختزلت إلى الجزء الأهم منها كأيقونة، ورأينا أيضاً بيرت رينولد/الذكر الأمثل وشخصية جيمس بوند كأيقونة سياسية وغيرهم.
ونلاحظ هنا أن هذه المرحلة قد واكبت الثورة الفرنسية في الستينيات وثورة الشباب في كل أنحاء العالم وغير ذلك من علامات اعتبرت فيما بعد بدايات مرحلة ما بعد الحداثة.
المرحلة الرابعة التي نعيشها هي مرحلة الأيقونة الكاملة الخالصة المتجددة أبداً حيث التغير الشامل هو الدين الجديد الذي يتطلب أيقونات مماثلة، وسنجد أبرز رموز المرحلة "مادونا" التي قدمت "سرير مادونا" وغيرها من نجوم الاستعراض مايكل جاكسون الذي يتغير مع زئر نساء إلى زئر أطفال ولا فرق ومن أسود إلى أبيض ولا يهم، وهكذا.
سنجد أيضاً أرنولد شوازنجر القاطرة البشرية بطل العالم السابق لكمال الأجسام الذي يصير منقذ العالم الحالي في "يوم القيامة"، سنجد فان دام المقاتل الشرس مثله مثل تشارلز نوريس وبروسي ويليس وغيرهم من أبطال الرياضيات العنيفة حيث الأيقونة الجديدة هي العنف المتسارع والمتصاعد ويفهم ستالوني الملاكم الفاشل اللعبة فيسارع إلى "روكي" ثم "رامبو" ثم "حافة الهاوية". وكلها شخصيات تمثل ستالوني ذاته ويصير الدال هو المدلول، والرمز والمرموز إليه شيئاً واحدا، ومما ساعد على انتشار هذه المرحلة اختراع الفيديو وتطور تقنية الاتصال والترفيه الإلكتروني عبر الكمبيوتر فكل نجوم الغناء والاستعراض حالياً لا يعشيون أية حياة خاصة، إنما هي حفلات مستمرة وصخب هائل وضجيج مستمر، وهكذا سنجد أيس كيوب أو "مكعب الثلج" و"يس تي" أو "الشاي المثلج" وهما نجمان زنجيان في عالم الاستعراض حيث تمتلئ أغانيهما بما يسمى بالكلمات السافلة أو الخارجة، وهما أيضاً يحيان حياة إجرامية كاملة ويجسدانها في فيلم بعنوان ممنوع المرور. لقد اختلط الحابل بالنابل وتساوى كل شيء في هذه المرحلة، ولم يعد هناك مجال لعبء نفسي أو إحباط أو خواء فكل الأشياء متساوية، كما أسلفنا.
في هذا النموذج التحليلي سنجد أن المراحل الأربع تواكب تطوراً معيناً للشخصية الخيالية/الرمز التي تقدمها السينما فقد شهدت المرحلتان الأولى والثانية شخصية البطل/الإنسان/المتحضر الذي يهزم البرابرة كما في أفلام الوسترن مع واين كوبر وغيرهما، أو كما في طرزان ويسموار وغيره. وكانت تلك الشخصيات تعبيراً عن سيادة الجنس الأبيض وفكرة التمركز حول الذات ومرحلة الاستعمار بصفة عامة والتي واكبت ما عرف بعصر التحديث. كما سنجد في أواخر المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة أنهما قد شهدتا ظهور سوبرمان وجيمس بوند، كما أسلفنا وغيرهما من الأبطال الخارقة. وهي من سمات عصر الحداثة والتمركز حول فكرة الإنسان الأعلى ودوره في التحكم في الكون وسيادته. ونجد أن العلم والصراع الأيديولوجي يلعب دوراً أساسياً في هذه الشخصيات حيث معظمها يحارب إمبراطورية الشر الشيوعية، ويعمل على نشر الحرية في العالم وكسر الستار الحديدي.
وتتميز المرحلة الرابعة بظهور النينجا ترتلز، وهي تجسيد أمثل لخصائص ما بعد الحداثة حيث النينجا هم مقاتلوا اليابان الأسطوريون الذين لا نعرف متى وكيف يأتون أو يذهبون ويستخدمون أسلحة سحرية فتحل الخرافة البسيطة السحرية محل الدين العقلي التأملي وأيضاً يتوحد الفرد في عدوه الأيديولوجي، وإن لم يستطع التغلب عليه بسلاحه فعليه أن يستخدم سلاحاً يقهره. فالترتلز أعداء أزليون لشرادرا وفرام وهو شخصية مقاتل نينجا ياباني شرير ولكنهم أصدقاء لأفريل مذيعة التليفزيون البيضاء. وحتى معلمهم الياباني قد تحول إلى فأر، أي أنه لا يوجد يا باني طيب إلا بعد أن يتحول. وفي نقطة التحول والتغيير والمسخ تكتمل الدائرة ما بعد الحداثية حيث الدين الجديد، كما أسلفنا هو التغير المطلق ولا وجود لأي مركز أو قداسة. من ثم الفأر يساوي الإنسان والسلاحف وكل شيء يعادل كل شيء وأي شيء.
نشرت هذه المقالة لى بمجلة سطور العدد 16 مارس 1998
ترجمتها عن نص انجليزى للدكتور اسامه القفاش كان قد اهدانى اياه نسخة منه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق